جيل دعدع: يوكل ما يشبع، اتحاكيه ما يسمع، ابروح ما يرجع



ما زال هذا المثل يرن في أذنّي، فقد كانت جدّتي تقوله، ولم تنطق هذا المثل بشكل اعتيادي إلا إنها كانت تغيّر نغمة صوتها وتميّل رأسها وتحرّك يديها. كان ذلك يتم في قمّة لحظات غضبها وعدم رضاها على تصرّفات جيلنا. فما الذي كان يستفز جدّتي لتقول هذا المثل؟ عندما ترى صحون الطعام مملوءة بالطعام ولا يؤكَل إلا القليل منه ويتم رمي الباقي، عندما ترى ملابس كثيرة جميلة جديدة يتم التخلّص منها، وعندما ترى الأطفال والمراهقين والشباب يحيدون عن قيم الجيل الأكبر من حيث اللباس المحتشم والكلام الرزين واحترام الكبير سواء بالتحية أو بالتنازل عن الكرسي لجلوس الكبار!
آه يا جدّتي لو تزورينا زيارة خاطفة وترين هذا الجيل، لست أعلم أي مثل ستقولين؟!

جيل يتكلّم من خلال أصابع يديه، ويعبّر عن مشاعره من خلال "ايموجي" مرسومة وجاهزة يقوم باختيارها أو ابتكار البعض منها. جيل يرى العيون من خلال شاشة هاتفه ويسمع الآذان من خلال مسجات مسجّلة ويشعر بالفرح والابتهاج من خلال زيارات الأصدقاء ولايكاتهم على صفحاته المتنوعة وتغمره فرحة النجاح بزيادة متابعيه.

ولكن إن كلّمتيه فبالكاد يسمعك، وإن مررت بجانبه بالكاد يراك، وإن إردت أن تسردي له قصة من قصصك الممتعة فسيسرح في عالمه الافتراضي وينساك.

يا جدّتي هو جيل يعيش في عالمه الخاص، عالمه الافتراضي، عالمه الذي بناه كما أراد من خلال وسائل قوية وفعّالة بالتأثير على المشاهدين والمستمعين وجذب المتابعين. إنه جيل ناجح وغني يحصل على المال بأسرع الطرق ويصل القمم بأبسط الطرق ويؤثر في الجماهير بنقرات على هاتفه!

هو جيل يريد الأفضل والأغلى والأفخم، آه يا جدّتي، هم لا يلقون الملابس ويأتون بأجمل منها، ولكنّهم يلقون بوظائف وسيارات فاخرة وهواتف تعمل فقط للحصول على الأفضل ومتابعة ما هو "ترندينج" على رأيهم. لا تشغلي بالك يا جدّتي فربما لن تفهمي عليّ ما أقول فالعالم تغيّر كثيرًا منذ أن رحلتِ.

صار الجيل يجري وراء الوجبات السريعة الجاهزة ليتناولها وحده أو مع مجموعة من الأصدقاء، هؤلاء الأصدقاء الذين يختلفون عنهم تمام الاختلاف في القيم والمبادىء وحتى الأخلاق. ويجري وراء المتعة فقط، هو جيل يريد أن "ينبسط"، ولا يريد "الصعب" بل يريد الأسهل والأسرع.

لكنّه يا جدّتي من أعماقة يشعر بالفراغ، هو متعب وحزين رغم "ايموجي" الفرح التي ينشرها، هو يشعر بالفشل رغم وصوله للملايين، ويشعر بالوحدة رغم كل أولئك المتابعين.

نعم يا جدّتي هو يحتاج لمن يمسك بيده ويعانقة ويحبّه بصدق، هو يريد أن يستمتع ويقدّر ويشعر بقيمة الأشياء الصغيرة، ويرفع عيونه إلى السماء ويشكر القدير على كل ما صنع، هو يحتاج أن يزرع شجرة، ويراها تكبر ويأكل من ثمرها ويأخذ نفسًا عميقًا ويبكي مع المتألم ويضحك على نكتة سخيفة، هو يريد أن يتحرّر ويعيش الحياة كما هي.

تعالي يا جدّتي فنحن جيل يوكل ما يشبع، اتحاكيه ما يسمع، ابروح ما يرجع بل وأكثر.

تعليقات

  1. كلام سليم و واقعي، شكرا عزيزتي و اختي الفاضلة شيرين....استمري للأمام الرب يباركك، رنا 💐

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل بطاريتك مشحونة؟ جزء 1

همّ البنات للممات

عالسريع