ابني العزيز

 


أرسل لك رسالتي بعد أن حضرت احتفالات تخرّجك ورأيتك بروب التخريج وأنت تسير مع الموكب نحو المنصة، وهذا ما أودّ أن أقوله لك. 


لا تضحك عليّ، ولكنّي في جميع الاحتفالات كنت بعيوني أبحث عنك، وأنتظر أن أسمع صوتك، وبكاميرتي أحاول التقاط صور لك، ومن الصور الملتقطة أقوم بتكبير الجزء الذي تظهر فيه وأخزّن هذا المشهد وحده. أعلم أن هذا مضحك فالاحتفال لا يرتكز عليك، والتخريج ليس لك وحدك، ولكن هذا ما كنت أراه. وددت في مخيّلتي تسريع أسماء جميع الحروف التي تسبق حرف اسمك والذي هو للأسف من الحروف الأخيرة في الأحرف الهجائية، لأصل لاسمك وأصفّق وأصرخ وأزعج كل من حولي بصوتي الحاد وزغرودتي الخالية من أي حس موسيقي. مللت من جميع الكلمات والخطابات والأغاني ما دمت أنت ليس محورها.


تمنّيت لو قلت كلمة الأهل وتحدّثت عنك، وأخبرت الجميع عن أمانتك والتزامك وحماسك واجتهادك وسط الحجر والمرض والظروف الصعبة المتنوّعة التي مررت بها، وددت أن أقول للجميع أنني تعلّمت منك كيف أحببت الحياة وتأقلمت معها رغم صعوبتها، ركضت حول المنزل لأنك لم تتمكّن من الوصول إلى تمرينات كرة القدم، ولعبت الشطرنج على الموبايل لأن المراكز مغلقة، وأنهيت شهادة الموسيقى عبر الإنترنت دون تراخي أو انسحاب مع أنه كان الأفضل والأسهل في ذلك الوقت. فشل النظام في تلبية احتياجاتك، وعجز الكثيرون عن تقديم الأفضل لك أو على الأقل ما تستحق ولكنك "يوريكا" أي كنت تجد الحلّ بعد الإحباط وبعض الصراخ، ولكنّك كنت الأقوى والأمتن، ولكنك الألين والألطف. وددت أن تكون الكلمة عنك ولك وليسمعها الجميع.


كما وتمنيت أن أرى معلميك الذي لم أرهم ولا مرة خلال السنتين سوى مرّة أو مرّتين عبر الزوم. وددت أن أمد يدي وأصافح كل واحد منهم وأحتفل معهم بانتهاء سنتين دراسيتين ليس لهما مثيل. سنتان مليئتان بالعشوائية المنظمة، والتشجيع المحبط، والحماس الخالي من الصدق، والحبّ المخفي، والصراع الداخلي ما بين الواقع والمجهول، وما بين الرجل المناسب في المكان المناسب والواقع غير المناسب، وما بين الرغبة في التغيير ووجود القيود المكبّلة، وما بين الصراع بين القيم وإمكانية الوصول بطريق أسهل.


ولكنّها مرّت بحلوها ومرّها، مرّت وعبرت معها ذكريات جميلة والكثير من الضحك وبعض الدموع، ولكنّنا تعلّمنا وكبرنا ونضجنا وأعتقد أننا أصبحنا أفضل. أفضل شيء هو أننا تمكّنا أن نسامح وننسى ونتقدّم، تمكّنا من أن نضع أعذارًا، وأن نحبّ بالرغم من، وأن نشعر بالامتنان والتقدير، ونفرح ونبتهج، ونقابل كل كلمة قيلت في غير مكانها بابتسامة لطيفة رافعين عيوننا إلى السماء طالبين من رب السماء أن يعمل في القلوب، أن يزرع الحبّ ويكسّر تلك الأصنام الصغيرة القابعة في الأعماق من نرجسية أو رغبة في السيطرة أو كبرياء أو دونية وخوف وشعور بعدم الأمان.


تمكّنا أن نقول لا في الوقت الذي كان من الصعب النطق بها، وأن نقول نعم بقوة وحزم، وأن نغض الطرف عن الظلم عالمين أن لنا إله عادل، وتاركين الأحقاد والتنمّر لأن المحبة أقوى، مادّين أيدينا وقلوبنا متعاطفين لأن التعاطف هو احتياج البشرية الأكبر. عرفنا معنى العائلة وأدركنا كم هي رائعة القيم التي نحملها والتقاليد البسيطة التي ارتشفناها في طفولتنا. أدركنا أن أجمل ما في الحياة ضحكة الجدّ وابتسامة الجدّة وزغرودة الخال ورقصة الخالة وآه ما أروع مهاهاة الجدّة وبالطبع تصفير أبناء وبنات العم والخال. انتهت الاحتفالات ولكن الفرحة لم تنتهي، وتعداد بركات إلهنا لن ينتهي، ومنها تلك الكلمات البسيطة التي تخرج من قلبي الآن.

 

أتمنى أن لا تكون مشاعري هذه أثناء تخرّجك مشاعر دائمة فالحياة أوسع وأكبر منك أنت، فيوماً ما ستجهّز شنطتك وترحل إلى عالم واسع ستكون أنت فيه وحدك بعيدًا عنا وعن عيوننا وعن عنايتنا، ولكننا نعلم أنك في عناية القدير التي هي أكبر وأعظم وأسمى. لن يكون بإمكاننا ملاحقتك بعيوننا ولا يمكننا متابعة ظهور اسمك ولكنّنا نترك بين يديك تلك القيم الرائعة التي تحملها ونحملها وذلك المنظور الرائع للحياة والعالم والآخرين ولأنفسنا الذي أدركناه معجونًا بالمحبة ومحمولاً لك من أيدينا بين يدي القدير. ولا ننسى شعارنا "على التساهيل" أو "على التسهيلات" على رأي العمّة الغالية. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل بطاريتك مشحونة؟ جزء 1

همّ البنات للممات

عالسريع