رسالة إلى رجل شرقيّ
كم كانت طفولتي مميّزة بسبب كوننا جيرانًا! لم أشعر أنب طفلة وحيدة فكان لي
أخوات عدّة، وهنّ أخواتك. تعلّمت الكثير منهنّ، وبشكل أخص نشاطهن في الأعمال
المنزلية. حتى والدتي التي نشأت في بلاد الغربة كان يُدهشها المهارات التي تعلمتها بسبب عائلتك،
فرأتني أقوم بلفّ ورق العنب وأحشو الكوسا وأنظف السجّاد وغيرها الكثير. ليس ذلك
فقط ولكنّني كنت أقدّم لوالدي كوب الشاي وأقول له: "اجلس لا تتحرّك، أنت ملك
البيت!" هكذا كما كانت أمّك وأخواتك تقولان لك. كنت في أعماقي "أحسدك"
على هذا الدلال، ولكنّني أُسكِت هذا الصوت وأقول هو الذكر، هو حامل اسم العائلة،
هو الابن الوحيد، هو سند أبو وأم رامي وهو سند أخواته في المستقبل. أحببت تلك
الأجواء المليئة بالحياة في بيتكم وبنفس الوقت الحياء والاحترام والأدب المكتوم من أخواتك ، كنّ مؤدّبات لا يرتفع صوتهن، ويقمن بالواجب بل وأكثر.
رامي، لا يمكنني إلا أن أتذكّر تلك الحادثة التي فرّحتني وأخافتني وأضحكتني
بنفس الوقت. أتذكّر تلك الحجرة التي رميتها على الشاب الصغير الذي جاء إلى الحارة
لزيارة جدّه في المنزل القريب منّا. كنتَ صغيرًا يا رامي، ولكنّك كنت تعلم إنك
"المسؤول عن أخواتك"، فكان يُقال لك كلّ مرة يذهب والدك في عمل خارج
المدينة بأنك "رجل البيت" في غيابه. كنت "الحمش" الذي لا يقبل
أن يمسّ أخواتك أي سوء. ما زال منظر الحجر يخيفني والدم المتناثر من رأس الشاب
الصغير يدهشني. رامي، ماذا قال لأختك؟ لقد سألها: هل أنتم سكّان الحيّ؟ نعم، هذا
تحرّش، إنه غريب! كيف يتكلّم مع أختك؟ مع إن طولك كان نصف طوله وهي كانت أختك
الأكبر منك بسنة أو أكثر قليلًا، إلا إنك كنت تدرك رغم صغر سنّك أنك المسؤول عن
أخواتك. الأمر الجميل في الموضوع إننا أكل المنسف في اليوم التالي، لمصالحة
العائلتين، ولتشجيع الشاب الذي فقده والده بعد مرض عضال وجاء لتغيير نفسيته عند
جدّيه. كان الأمر مقبولاً ومسموحًا ومبرّرًا من الجميع، فهذه "نار
الشباب" الذي بالنسبة له شرف العائلة وسمعة أخواته أهم ما في الحياة. المهم
في النهاية إننا أكلنا المنسف وخرجنا للعب معًا، والشاب على رأسه اللفّة البيضاء
وبضع قطرات الدم. الحمد لله إن مكروهًا لم يصبه.
كبرنا يا رامي، مرّت السنوات سريعًا، فرّقتنا الحياة. وكلّ منّا ذهب في
طريقه، وسار في درب الحياة بمشقاته وبركاته. علمت أنك تزوّجت وقد فرحت بسماع
الخبر. تبدو فتاة جميلة ولطيفة، تمنّيت لك السعادة من كل قلبي يا رامي، فأنت
وعائلتك كعائلتي وأكثر. أعلم إنه بعد وفاة الوالد أصبح الحمل كبيرًا عليك، وأعلم
إنه رغم الإرث المادي الكبير من أراضي وأملاك حصلت عليها، لكن ما زلت كريمًا ولا
"تقصّر" مع أخواتك، فهنّ أول من تزور في العيد، ولا تدخل بيوتهن
"بيد فارغة" بل تقدّم لهن "طبق البقلاوة" من الحجم الكبير
وتعيّد عليهن ببضعة دنانير.
أعلم إن تلك الرسالة لن تصلك بعد أن سمعت ذلك الخبر الصادم، ولكنّني لم أتمكّن من منع نفسي عن كتابتها فربما يقرأها غيرك ليعلم إننا بحاجة إلى تغيير كبير في مفاهيمنا وقناعاتنا.
وداعًا يا رامي! أهكذا يمكن أن تكون نهايتك؟ فهل يعقل أن تشكّ ذلك الشكّ في زوجتك وترتكب تلك الجريمة
بحقّها وبحقّ نفسك.
تعليقات
إرسال تعليق