الشيب الذي قال للشباب وداعاً

لم يكن الشيب الذي كان يعلو رأسها هو ما لفت نظري، ولا تلك التجاعيد الكثيرة التي كانت في وجهها مع أنني لم أرَ مثلها في حياتي. إنما ما أدهشني هو كيف كانت تتكلم. فما رأيته بعيوني هو عجوز لا تقوى على المسير، وظهر منحنٍ لا يستند إلا عند الجلوس على مقعد مريح، وتجاعيد وشيب ليس له مثيل في عالم الماكياج والأصباغ وعمليات التجميل الحالية. ولكن ما رأته عيوني التي في أعماقي هو أكثر من مجرد تجاعيد وشيب وشيخوخة ولكنها رأت تاريخاً وخبرات واختبارات وحكمة وروايات وقصص ممتعة كتلك القصص التي سمعتها منذ كنت طفلة.
وقفت أنظر إلى وجهي في المرآة، وفي هذه المرة وجدت نفسي أزيد مقدار كريم الوجه وما تحت العيون دون أن أشعر بذلك، إنه ذلك الخوف الذي أصابني، الخوف من التجاعيد. لا بد من الوقاية وأخذ الاحتياطات اللازمة منذ سن صغيرة. هذا ما قلته لنفسي وأنا أقوم بوضع المزيد من الكريم المرطب على وجهي. وماذا أيضاً هل من نظام غذائي خاص وهل من رياضة تنشط الجسم والعضلات؟ لا بد من أن تلك الأمور ضرورية وهامة، ولكن أهذه الأمورهي كل ما في الحكاية.
رأيتها تتحدث، ثقة عالية بالنفس يمكن أن تلاحظها بين كلماتها وعباراتها المرتبة. كما أنها كانت تتحدث بلغة أجنبية في كثير من الأوقات. لا بد أنها تعلمت تعليماً بمستوى عالٍ، خاصة أن التعليم في تلك الأوقات لم يكن بالأمر المألوف خاصة للبنات.
كنت أستمع لها وكان هناك ما يتحرك في أعماقي، فكلامها ليس ككلامنا هذه الأيام. إنه كلام يحمل في طياته ألم. لا بد أنها عانت الكثير ومرت في ظروف متنوعة. هذا كله لم يحنها، مع أن الشيخوخة حنت ظهرها. هذا كله لم يهز ولم يزحزح ولم يغيّر إيمانها بالرغم من أن لون شعرها تغيّر وأسنانها تساقطت. لكنها في أعماقها تقف صامدة، شامخة لا ترضى بالهزيمة ولا بالانكسار أمام المشاكل. تعلمت كيف تتمسك بما تؤمن، والأهم أنها كانت تتمسك بمن تؤمن. فقد عرفته شخصياً ولم يخذلها يوماً. في وسط الوحدة وقف إلى جانبها، وفي الحزن قدّم لها مع المنديل الذي تمسح به دموعها وكلمة حانية، وفي وسط الاحتياج قدّم ما يكفي. كان هناك في كل وقت وفي كل ظرف مهما كان. هذه العلاقة المميزة بمن تؤمن هي التي منحتها القوة في أعماقها، فمع أنها لقّبت في كثير من الأحيان بالعجوزة أو الختيارة إلا أن في أعماقها إيمان لا يعرف العجز.
فمع أنني كنت أفكر أن المزيد من الرياضة والطعام الصحي ومستحضرات العناية بالبشرة سوف تمنح بعض الحصانة من الشيخوخة التي لا بد أن تأتي لمن يطيل الله في عمره، إلا أنني أدركت أن السر ليس في هذا إنما في العلاقة مع الذي يمكنه أن يمنح القوة في الأعماق رغم الضعف الخارجي الظاهر.

man sitting on brown wooden bench

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل بطاريتك مشحونة؟ جزء 1

همّ البنات للممات

عالسريع